السجن المدني بالهوارب
يقع السجن المدني بمنطقة الهوارب في وسط تونس، وهي منطقة معروفة بانعزالها ووعورتها وعسر مناخها، خاصة بالليل شتاءً وطوال النهار طوالَ العام. وقد تحوَّلت المنطقة إلى مقاطع حجارة يتطاير غبارها على الدوام، وتُعرَف هذه المنطقة بأنها جُعِلت في العهد الوسيط منطقةً للعزل يُرمَى فيه بمرضى الجذام، وحديثًا، قبل الاستقلال وبعده، كانت منفى. ومما يذكره طلبة حراك 1972 أن النظام -فيما عدا إيقافه للدروس وإغلاقه للمؤسسات الجامعية واعتقاله للمئات من الطلاب- قد هدَّد بإرسال جموع الطلبة إلى الصحاري وإلى الهوارب. وقد استخدم نظام بورقيبة سجن الهوارب مركزًا ينفي إليه الناس بدعوى إصلاحهم اجتماعيًّا دون أحكام عادلة ولمُدد غير محددة، مع تشغيلهم في مقاطع الحجارة. وخلال السبعينات بُني سد أغرق مباني المركز، فأُنشِئَ بدلًا منه مبنى السجن الحالي. وقد استخدم نظام ابن علي سجن الهوارب لإبعاد سجناء الرأي عن عائلاتهم والتنكيل بهم. ومِن بين مَن عانى الأمرَّيْن في هذا السجن بعض نشطاء ما يُسمَّى بالحركة الإسلامية، وكذلك الناشط اليساري ذائع الصيت محمد الكيلاني.
ويُعتبَر سجن الهوارب واحدًا من أكثر السجون اكتظاظًا وأسوئِها معيشةً. ففي الوقت الذي تبلغ فيه الطاقة الاستيعابية للسجون التونسية 16,000 سجين تقريبًا، يتجاوز عدد سجناء سجن الهوارب 23,000. ويقول كريم عبد السلام عن الهوارب الذي سُجن فيه وهو تلميذ: "أولًا، هو مركز للإصلاح التشغيلي، ومركز إيواء للأحكام الإدارية بالأشغال الشاقة دون حكم قضائي. وحدث أن غمره الماء، وبعد ذلك شُيِّد سدٌّ وبحيرة اصطناعية لدعم المنطقة. وقد بُنِيَ السجن في منتصف قرية الهوارب قرب المحاجر، وسط أصوات انفجارات الديناميت المتكررة، التي أصبحت مواقيت يتتبعها السجناء.
ويعطيك الغبار المتناثر في الجو إحساسًا بأنك في منطقة معزولة خارج الأرض، وكذلك الغِرْبان المحلقة في السماء بنعيقها المزعج تعطيك صورة التربص بك في مدينة الموت هذه. وقد اشتُهر هذا السجن بسوء التغذية والتجويع، لبُعده عن المدن، ولطبيعة الإدارة التي اعتمدت ذلك الأسلوب للتعذيب الممنهج، ولتُبقِي الإحساس بالإرهاق والفشل عند السجناء أغلب الوقت، هذا بالإضافة إلى أن السجن في مكان ناءٍ عن المناطق الحضرية.
ويشبه سجن الهوارب في بنائه الكثير من المعتقلات العتيقة، بسوره العالي جدًّا، المحاط بأسلاك شائكة مسننة وكشافات ضوء ترهق العيون، وتعطي الليل صفرة في منتصف ساحة السجن، وهو ما يزيد من الشعور بالقلق والفزع أثناء 'حفلات' التعذيب وإيقاع العقاب. ويكفيك أن تبيت ليلة تحت ضوء الكشاف في البرد لتنهار بحلول الصباح. وقد اختير السجَّانون من المناطق المجاورة، التي يغلب على أهلها الطبع الريفي وكراهية سكان المدن. وربما يكون القائمون على تلك السجون هم مَن تعمَّدوا هذا الفصل الإقليمي، واستعملوه إمعانًا في سوء معاملة السجناء.