مجزرة ديرسم

بعدَ إقامة الجمهوريّة التركيّة في العام 1923، اتّخذت النُّخب السّياسيَّة التّركيّة التّتريكَ والمركزيّة هدفَيْن أساسيَيْن لها. فبدأ تجاهل وجود الأكراد وإنكار هويّتهم، ثمّ شُنّت، في السّنوات اللّاحقة، عملياتٌ عسكريّة ضدّ مجموعاتٍ كرديّة قَاومَت سياسات الحكومة. وفي خلالِ العشرينات من القرن المُنصرم، أُخضِعَت غالبيّة المُحافظات الكُرديّة لسيطرة أنقرة. أمّا منطقة ديرسم الواقعة في شرق الأناضول، وعلى الرّغم من المُحاولات الحثيثة لإحكام السّيطرة عليها على مدى سنوات الإمبراطوريّة العثمانيّة الأخيرة، فقد بقيت تتمتّعُ بحكمٍ ذاتيٍّ جزئيّ حتّى منتصف ثلاثينات القرن الماضي، وذلك بسببِ طبيعتها الجبليّة وتضاريسها صعبة السّلوك. وكانت غالبيّة سكّانها (ولا تزال) من الأكراد العلويين الّذين لطالما اعتبرهم جيرانهم السّنّة والحكومات المركزيّة "أغرابًا" على مرّ العصور. 

انطلقت الحملة العسكريّة التركيّة على ديرسم في العام 1937، وكانَ هدفها الرّسمي "تهدِئَة" المنطقة. فقُتِلَ، خلالَ مسار العمليّة العسكريّة الأُولَى، آلاف الأشخاص، وأُلقِيَ القبض على القائد العلويّ الدّينيّ والقبليّ سيّد رضا، قبلَ أن يُقتلَ إعدامًا. ثمّ نُفّذت حملةٌ عسكريّة أخرى، مُسْنَدةً من الطّائرات العسكريّة، وذلكَ طوال الفترة المُمتدة من كانون الأوّل/ ديسمبر من العام 1937 حتّى آب/ أغسطس من العام 1938. أمّا مَن بقيَ على قيد الحياة من سُكّان ديرسم، فأُرغِمُوا على النّزوح إلى الناحية الغربيّة من الأناضول، وسُمِّيَت المنطقةُ تونجلي (أي "الكفُّ البرونزيّ" وذلكَ نسبةً إلى اعتداءات الحكومة الجسيمة). وقد أصبحت صبيحة كوكجن، ابنةُ مصطفى كمال بالتّبنّي وأوّلُ قائدة طائرة حربيّة تركيّة، رمزًا لتلكَ العمليات، وذلكَ بسببِ دورها الأساسيّ في تنفيذ القصف. وعلى الرّغم من أنَّ الحملة العسكريّة استهدفَت رسميًّا قُطّاعَ طرقٍ ومتمرّدين، فقد وُجّهت فعليًّا ضدّ سكّان المنطقة أجمعين، وقد شُنّ خلالها قصفٌ جويّ على أبناء القرية المحتمينَ في الكهوف، وأُلقيَ عليهم الغاز السّامّ أيضًا. فكانَ أن لقي حوالى 60 ألف شخصٍ مصرعهم، أغلبهم من عداد المدنيين. وبعدَ مرور ثلاث سنوات، أنجزَت خلالها الحكومة البُنَى التحتيّة الأمنيّة في ديرسم، سُمِحَ للسّكان المُهجّرينَ بالعودة إلى ديارهم. لكنَّ الحكومة التّركية واصلت، على مرّ العقود اللّاحقة، سياساتها في الدّمج الثقافي القسري بحقّ الأكراد العلويين. 

لم تأتِ القيادة السيّاسيّة التركيّة على إصدارِ اعتذارٍ رسميّ عن المجزرة حتّى حلول العام 2011. فصرّحَ رئيس الوزراء حينذاك رجب طيّب أردوغان خلالَ برنامجٍ بُثَّ في تشرين الثّاني/ نوفمبر من العام 2011، قائلًا: "إذا كانَ من حاجةٍ إلى الاعتذار أصالةً عن الدّولة، وإن كان عُرفٌ كهذا واردًا في الكُتب، فإنّني أعتذر، وها أنا أعتذر". وقد اعتبرَ بعضُ المُنتقدينَ هذا التّصريح مُحاولةً آيلة إلى النّيل من معارِضي أردوغان الكماليين أكثرَ منه مسعًى صادقًا إلى تصفية الحسابِ في شأن هذا الانتهاك التّاريخي لحقوق الإنسان. غير أنَّ تصريح أردوغان كانَ أوَّل اعتذار رسميّ علنيّ يُقدّمه زعيمٌ تركيّ عن إحدى الفظائع الماضية الّتي ارتكبتها سلطات الدّولة التركيّة. وتجدرُ الإشارة إلى أنَّ المؤلّفات الأكاديميّة الحديثة سلّطت الضّوء على حملة ديرسم، وقد أسماها بعضُ العلماء النّاقدين إبادةً عرقيّة، بل حتّى إبادةً جماعيّة، ترمي إلى محو الهويّة الكُرديّة.